الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
وهي مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة: إلا أربع آيات منها. وروي أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت السورة؛ وسيأتي. وقال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا: لو قصصت علينا؛ فنزل {الر تلك آيات الكتاب المبين} قوله تعالى{الر} تقدم القول فيه؛ والتقدير هنا: تلك آيات الكتاب، على الابتداء والخبر. وقيل{الر} اسم السورة؛ أي هذه السورة المسماة }الر} }تلك آيات الكتاب المبين} يعني بالكتاب المبين القرآن المبين؛ أي المبين حلاله وحرامه، وحدوده وأحكامه وهداه وبركته. وقيل: أي هذه تلك الآيات التي كنتم توعدون بها في التوراة. {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} قوله تعالى{إنا أنزلناه قرآنا عربيا} يجوز أن يكون المعنى: إنا أنزلنا القرآن عربيا؛ نصب }قرآنا} على الحال؛ أي مجموعا. و}عربيا} نعت لقوله }قرآنا}. ويجوز أن يكون توطئة للحال، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، و}عربيا} على الحال، أي يقرأ بلغتكم يا معشر العرب. أعرب بين، ومنه (الثيب تعرب عن نفسها). }لعلكم تعقلون} أي لكي تعلموا معانيه، وتفهموا ما فيه. وبعض العرب يأتي بأن مع }لعل} تشبيها بعسى. واللام في }لعل} زائدة للتوكيد؛ كما قال الشاعر: وقيل{لعلكم تعقلون} أي لتكونوا على رجاء من تدبره؛ فيعود معنى الشك إليهم لا إلى الكتاب، ولا إلى الله عز وجل. وقيل: معنى }أنزلناه} أي أنزلنا خبر يوسف، قال النحاس: وهذا أشبه بالمعنى؛ لأنه يروى أن اليهود قالوا: سلوه لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن خبر يوسف؛ فأنزل الله عز وجل هذا بمكة موافقا لما في التوراة، وفيه زيادة ليست عندهم. فكان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم - إذ أخبرهم ولم يكن يقرأ كتابا قط ولا هو في موضع كتاب - بمنزلة إحياء عيسى عليه السلام الميت على ما يأتي فيه. {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} قوله تعالى{نحن نقص عليك} ابتداء وخبره{أحسن القصص} بمعنى المصدر، والتقدير: قصصنا أحسن القصص. وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى مسألة: واختلف العلماء لم سميت هذه السورة أحسن القصص من بين سائر الأقاصيص؟ فقيل: لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم ما تتضمن هذه القصة؛ وبيانه قوله في آخرها {إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} قوله تعالى{إذ قال يوسف} }إذ} في موضع نصب على الظرف؛ أي اذكر لهم حين قال يوسف. وقراءة العامة بضم السين. وقرأ طلحة بن مصرف }يؤسف} بالهمزة وكسر السين. وحكى أبو زيد{يؤسف} بالهمزة وفتح السين. ولم ينصرف لأنه أعجمي؛ وقيل: هو عربي. وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن }يوسف} فقال: الأسف في اللغة الحزن؛ والأسيف العبد، وقد اجتمعا في يوسف؛ فلذلك سمي يوسف. }لأبيه يا أبت} بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال: رجل نكحة وهزأة؛ قال النحاس: إذا قلت }يا أبت} بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة؛ ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء، وله على قوله دلائل: منها - أن قولك{يا أبه} يؤدي عن معنى }يا أبي}؛ وأنه لا يقال{يا أبت} إلا في المعرفة؛ ولا يقال: جاءني أبت، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة، ولا يقال{يا أبتي} لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما. وزعم الفراء أنه إذا قال{يا أبت} فكسر دل على الياء لا غير؛ لأن الياء في النية. وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ، والحق ما قال، كيف تكون الياء في النية وليس يقال{يا أبتي}؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبدالله بن عامر }يا أبت} بفتح التاء؛ قال البصريون: أرادوا }يا أبتي} بالياء، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت }يا أبتا} فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء. وقيل: الأصل الكسر، ثم أبدل من الكسرة فتحة، كما يبدل من الياء ألف فيقال: يا غلاما أقبل. وأجاز الفراء }يا أبت} بضم التاء. }إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر} ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال: جاءني أحد عشر، ورأيت ومررت بأحد عشر، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما؛ جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات. قال السهيلي: أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا؛ {قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين} قوله تعالى{فيكيدوا لك كيدا} أي يحتالوا في هلاكك؛ لأن تأويلها ظاهر؛ فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ. واللام في }لك} تأكيد. كقوله الرؤيا حالة شريفة، ومنزلة رفيعة، قلت: فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه؛ ذكره أبو سعيد الأسفاقسي عن بعض أهل العلم قال: معنى قوله: (جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثة وعشرين عاما - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا؛ وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه }المعلم} واختاره القونوي في تفسيره من سورة }يونس} عند قوله تعالى إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة؛ لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب؛ كما إن قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحة صادقة؛ كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن؛ ورؤيا بختنصر، التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومنام عاتكة، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وهي كافرة، وقد ترجم البخاري }باب رؤيا أهل السجن}: فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة؛ إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة؛ وقد تقدم في }الأنعام} أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء؛ قال المهلب: إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة. الرؤيا المضافة إلى الله تعالى هي التي خلصت من الأضغاث والأوهام، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ، والتي هي من خبر الأضغاث هي الحلم، وهي المضافة إلى الشيطان، وإنما سميت ضغثا؛ لأن فيها أشياء متضادة؛ قال معناه المهلب. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقساما تغني عن قول كل قائل؛ قوله تعالى{قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك} الآية. الرؤيا مصدر رأي في المنام، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى؛ وألفه للتأنيث ولذلك لم ينصرف. وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا؛ فقيل: هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة، كالنوم المستغرق وغيره؛ ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم؛ فيخلق الله تعالى للرائي علما ناشئا، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح الإدراك، قال ابن العربي: ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، ولذلك لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال، وإنما يرى الجائزات المعتادات. وقيل: إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صورا محسوسة؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفي الحالتين تكون مبشرة أو منذرة؛ إن قيل: إن يوسف عليه السلام كان صغيرا وقت رؤياه، والصغير لا حكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه{لا تقصص رؤياك على إخوتك}؟ فالجواب: أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام؛ وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض؛ روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة. هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها؛ وفي هذه الآية دليل على أن مباحا أن يحذّر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة؛ لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدا، وفيها أيضا ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا؛ العاشرة: روى البخاري روى البخاري {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم} قوله تعالى{وكذلك يجتبيك ربك} الكاف في موضع نصب؛ لأنها نعت لمصدر محذوف، وكذلك الكاف في قوله{كما أتمها على أبويك من قبل} و}ما} كافة. وقيل{وكذلك} أي كما أكرمك بالرؤيا فكذلك يجتبيك، ويحسن إليك بتحقيق الرؤيا. قال مقاتل: بالسجود لك. الحسن: بالنبوة. والاجتباء اختيار معالي الأمور للمجتبى، وأصله من جبيت الشيء أي حصلته، ومنه جبيت الماء في الحوض؛ قال النحاس. وهذا ثناء من الله تعالى على يوسف عليه السلام، وتعديد فيما عدده عليه من النعم التي آتاه الله تعالى؛ من التمكين في الأرض، وتعليم تأويل الأحاديث؛ وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا. قال عبدالله بن شداد بن الهاد: كان تفسير رؤيا يوسف صلى الله عليه وسلم بعد أربعين سنة؛ وذلك منتهى الرؤيا. وعنى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام، وهي، معجزة له؛ فإنه لم يلحقه فيها خطأ. وكان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وكان الصديق رضي الله عنه من أعبر الناس لها، وحصل لابن سيرين فيها التقدم العظيم، والطبع والإحسان، ونحوه أو قريب منه كان سعيد بن المسيب فيما ذكروا. وقد قيل في تأويل قوله{ويعلمك من تأويل الأحاديث} أي أحاديث الأمم والكتب ودلائل التوحيد، فهو إشارة إلى النبوة، وهو المقصود بقوله{ويتم نعمته عليك} أي بالنبوة. وقيل: بإخراج إخوتك، إليك؛ وقيل: بإنجائك من كل مكروه. }كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم} بالخلة، وإنجائه من النار. }وإسحاق} بالنبوة. وقيل: من الذبح؛ قاله عكرمة. وأعلمه الله تعالى بقوله{وعلى آل يعقوب} أنه سيعطي بني يعقوب كلهم النبوة؛ قاله جماعة من المفسرين. }إن ربك عليم} بما يعطيك. }حكيم} في فعله بك. {لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين، إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين، اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين} قوله تعالى{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين} يعني من سأل عن حديثهم. وقرأ أهل مكة }آية} على التوحيد؛ واختار أبو عبيد }آيات} على الجمع؛ قال: لأنها خير كثير. قال النحاس: و}آية} هنا قراءة حسنة، أي لقد كان للذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبروا به، لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فقالوا: أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر، فبكى عليه حتى عمي؟ - ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب، ولا من يعرف خبر الأنبياء؛ وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا - فأنزل الله عز وجل سورة }يوسف} جملة واحدة؛ فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة، فكان ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم، بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم عليه السلام الميت. }آيات} موعظة؛ وقيل: عبرة. وروي أنها في بعض المصاحف }عبرة}. وقيل: بصيرة. وقيل: عجب؛ تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب. قال الثعلبي في تفسيره: لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه؛ وقال ابن زيد: كانوا أنبياء، وقالوا: ما يرضى أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه! فبغوه بالعداوة، وقد تقدم رد هذا القول. قال الله تعالى{لقد كان في يوسف وإخوته} وأسماؤهم: روبيل وهو أكبرهم، وشمعون ولاوى ويهوذا وزيالون ويشجر، وأمهم ليا بنت ليان، وهي بنت حال يعقوب، وولد له من سريتين أربعة نفر؛ دان ونفتالي وجاد وأشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. قال السهيلي: وأم يعقوب اسمها رفقا، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين، وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب. وقيل: في اسم الأمتين ليا وتلتا، كانت إحداهما لراحيل، والأخرى لأختها ليا، وكانتا قد وهبتاهما ليعقوب، وكان يعقوب قد جمع بينهما، ولم يحل لأحد بعده؛ لقول الله تعالى قوله تعالى{إذ قالوا ليوسف وأخوه} }يوسف} رفع بالابتداء؛ واللام للتأكيد، وهي التي يتلقى بها القسم؛ أي والله ليوسف. }وأخوه} عطف عليه. }أحب إلى أبينا منا} خبره، ولا يثنى ولا يجمع لأنه بمعنى الفعل؛ وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم فتآمروا في كيده. }ونحن عصبة} أي جماعة، وكانوا عشرة. والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر. وقيل: ما بين الأربعين إلى العشرة؛ ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط. }إن أبانا لفي ضلال مبين} لم يريدوا ضلال الدين، إذ لو أرادوه لكانوا كفارا؛ بل أرادوا لفي ذهاب عن وجه التدبير، في إيثار اثنين على عشرة مع استوائهم في الانتساب إليه. وقيل: لفي خطأ ببن بإيثاره يوسف وأخاه علينا. قوله تعالى{اقتلوا يوسف} في الكلام حذف؛ أي قال قائل منهم{اقتلوا يوسف} ليكون أحسم لمادة الأمر. }أو اطرحوه أرضا} أي في أرض، فأسقط الخافض وانتصب الأرض؛ وأنشد سيبويه فيما حذف منه }في}: قال النحاس: إلا أنه في الآية حسن كثير؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بحرف، فإذا حذفت الحرف تعدى الفعل إليه. والقائل قيل: هو شمعون، قال وهب بن منبه. وقال كعب الأحبار؛ دان. وقال مقاتل: روبيل؛ والله أعلم. والمعنى أرضا تبعد عن أبيه؛ فلا بد من هذا الإضمار لأنه كان عند أبيه في أرض. }يخل} جزم لأنه جواب الأمر؛ معناه: يخلص ويصفو. }لكم وجه أبيكم} فيقبل عليكم بكليته. }وتكونوا من بعده} أي من بعد الذنب، وقيل: من بعد يوسف. }قوما صالحين} أي تائبين؛ أي تحدثوا توبة بعد ذلك فيقبلها الله منكم؛ وفي هذا دليل على أن توبة القاتل مقبولة، لأن الله تعالى لم ينكر هذا القول منهم. وقيل{صالحين} أي يصلح شأنكم عند أبيكم من غير أثرة ولا تفضيل. {قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين} قوله تعالى{قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف} القائل هو يهوذا، وهو أكبر ولد يعقوب؛ قاله ابن عباس. وقيل: روبيل، وهو ابن خالته، وهو الذي قال قال الهروي: والغيابة شبه لجف أو طاق في البئر فويق الماء، يغيب الشيء عن العين. وقال ابن عزيز: كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة. قلت: ومنه قيل للقبر غيابة؛ قال الشاعر: والجب الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر؛ قال الأعشى: وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا؛ وجمع الجب جببة وجباب وأجباب؛ وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد القوة في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين. قيل: هو بئر بيت المقدس، وقيل: هو بالأردن؛ قال وهب بن منبه. مقاتل: وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. قوله تعالى{يلتقطه بعض السيارة} جزم على جواب الأمر. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة{تلتقطه} بالتاء، وهذا محمول على المعنى؛ لأن بعض السيارة سيارة؛ وقال سيبويه: سقطت بعض أصابعه، وأنشد: وقال آخر: ولم يقل شرق ولا أخذت. والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر؛ وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود؛ فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد؛ وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم، فربما لا يأذن لهم أبوهم، وربما يطلع على قصدهم. وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولاً ولا آخراً؛ لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم، بل كانوا مسلمين، فارتكبوا معصية ثم تابوا. وقيل: كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، فكانت هذه زلة منهم؛ وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه. وقيل: ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله؛ وهذا أشبه، والله أعلم. قال ابن وهب قال مالك: طرح يوسف في الجب وهو غلام، وكذلك روى ابن القاسم عنه، يعني أنه كان صغيرا؛ والدليل عليه قوله تعالى{لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة} قال: ولا يلتقط إلا الصغير؛ وقوله الالتقاط تناول الشيء من الطريق؛ ومنه اللقيط واللقطة، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة؛ قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى{يلتقطه بعض السيارة} أي يجده من غير أن يحتسبه. وقد اختلف العلماء في اللقيط؛ فقيل: أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد؛ وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر، وتلا قال مالك في اللقيط: إذا اتفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع، إلا أن يأمره الحاكم. وقال الأوزاعي: كل من أنفق علي من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق. وقال الشافعي: إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال، فإن لم يكن ففيه قولان: أحدهما - يستقرض له في ذمته. والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض. وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء في حكمهما؛ فقالت طائفة من أهل العلم: اللقطة والضوال سواء في المعنى، والحكم فيهما سواء؛ وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط؛ أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد. صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع؛ ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة، ولا تصرف قبل الحول. وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها. واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها؛ فمن، ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا. نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما، وسكت عما عداهما من الحيوان. وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم؟ قولان؛ وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط، وقال أشهب وابن كنانة: لا تلتقط؛ وقول ابن القاسم أصح؛ واختلف العلماء في النفقة على الضوال؛ فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم: إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره؛ قال: وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن. وقال الشافعي: إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع؛ حكاه عنه الربيع. وقال المزني عنه: إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا. وقال أبو حنيفة: إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة. ليس في {قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون، أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون} قوله تعالى{قالوا يا أبانا ما لك لا تأمننا على يوسف} قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك ببني يعقوب. ولهذا قيل: الأب جلاب والأخ سلاب؛ فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال. وقالوا ليعقوب{يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف} وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى يعقوب عليه السلام وقالوا هذا القول. وفيه دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبي علي ما يأتي. قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري }لا تأمنا} بالإدغام، وبغير إشمام وهو القياس؛ لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا. وقرأ طلحة بن مصرف }لا تأمننا} بنونين ظاهرتين على الأصل. وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزبن - وروي عن الأعمش - }ولا تيمنا} بكسر التاء، وهي لغة تميم؛ يقولون: أنت تضرب؛ وقد تقدم. وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه. }وإنا له لناصحون} أي في حفظه وحيطته حتى نرده إليك. قال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير؛ وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم{أرسله معنا غدا} الآية؛ فحينئذ قال أبوهم وقال آخر: وقال آخر: أي الراتعة لكثرة المرعى. وروى معمر عن قتادة }ترتع} تسعى؛ قال النحاس: أخذه من قوله{إنا ذهبنا نستبق} لأن المعنى: نستبق في العدو إلى غاية بعينها؛ وكذا }يرتع} بإسكان العين، إلا أنه ليوسف وحده صلى الله عليه وسلم. و}يرتع} بكسر العين من رعي الغنم، أي ليتدرب بذلك ويرتجل؛ فمرة يرتع، ومرة يلعب لصغره. وقال القتبي }نرتع} نتحارس ونتحافظ، ويرعى بعضنا بعضا؛ من قولك: رعاك الله؛ أي حفظك. }ونلعب} من اللعب وقيل لأبي عمرو بن العلاء: كيف قالوا }ونلعب} وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء. وقيل: المراد باللعب المباح من الانبساط، لا اللعب المحظور الذي هو ضد الحق؛ ولذلك لم ينكر يعقوب قولهم }ونلعب}. ومنه قوله عليه السلام: (فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك). وقرأ مجاهد وقتادة{يرتع} على معنى يرتع مطيته، فحذف المفعول؛ }ويلعب} بالرفع على الاستئناف؛ والمعنى: هو ممن يلعب }وإنا له لحافظون} من كل ما تخاف عليه. ثم يحتمل أنهم كانوا يخرجون ركبانا، ويحتمل أنهم كانوا رجّالة. وقد نقل أنهم حملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدو معهم إضرارا به. { قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون} قوله تعالى{قال إني ليحزنني أن تذهبوا به} في موضع رفع؛ أي ذهابكم به. أخبر عن حزنه لغيبته. }وأخاف أن يأكله الذئب} وذلك أنه رأى في منامه أن الذئب شد على يوسف، فلذلك خافه عليه؛ قال الكلبي. وقيل: إنه رأى في منامه كأنه على ذروة جبل، وكأن يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام؛ فكانت العشرة إخوته، لما تمالؤوا على قتله، والذي دافع عنه أخوه الأكبر يهوذا، وتواريه في الأرض هو مقامه في الجب ثلاثة أيام. وقيل: إنما قال ذلك لخوفه منهم عليه، وأنه أرادهم بالذئب؛ فخوفه إنما كان من قتلهم له، فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم؛ قال ابن عباس: فسماهم ذئابا. وقيل: ما خافهم عليه، ولو خافهم لما أرسله معهم، وإنما خاف الذئب؛ لأنه أغلب ما يخاف في الصحارى. والذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه؛ كذا قال أحمد بن يحيى؛ قال: والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وروى ورش عن نافع }الذيب} بغير همز، لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كرة فخففها صارت ياء. }وأنتم عنه غافلون} أي مشغلون بالرعي. قوله تعالى{قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة} أي جماعة نرى الذئب ثم لا نرده عنه. }إنا إذا لخاسرون} أي في حفظنا أغنامنا؛ أي إذا كنا لا نقدر على دفع الذئب عن أخينا فنحن أعجز أن ندفعه عن أغنامنا. وقيل{لخاسرون} لجاهلون بحقه. وقيل: لعاجزون. {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} قوله تعالى{فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه} }أن} في موضع نصب؛ أي على أن يجعلوه في غيابة الجب. قيل في القصة: إن يعقوب عليه السلام لما أرسله معهم أخذ عليهم ميثاقا غليظا ليحفظنه، وسلمه إلى روبيل وقال: يا روبيل إنه صغير، وتعلم يا بني شفقتي عليه؛ فإن جاع فأطعمه، وإن عطش فاسقه، وإن أعيا فاحمله ثم عجل برده إلي. قال: فأخذوا يحملونه على أكتافهم، لا يضعه واحد إلا رفعه آخر، ويعقوب يشيعهم ميلا ثم رجع؛ فلما انقطع بصر أبيهم عنهم رماه الذي كان يحمله إلى الأرض حتى كاد ينكسر، فالتجأ إلى آخر فوجد عند كل واحد منهم أشد مما عند الآخر من الغيظ والعسف؛ فاستغاث بروبيل وقال: (أنت أكبر إخوتي، والخليفة من بعد والدي علي، وأقرب الإخوة إلي، فارحمني وارحم ضعفي) فلطمه لطمة شديدة وقال: لا قرابة بيني وبينك، فادع الأحد عشر كوكبا فلتنجك منا؛ فعلم أن حقدهم من أجل رؤياه، فتعلق بأخيه يهوذا وقال: يا أخي ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب؛ فما أسرع ما تناسيتم وصيته ونقضتم عهده؛ فرق قلب يهوذا فقال: والله لا يصلون إليك أبدا ما دمت حيا، ثم قال: يا إخوتاه إن قتل النفس التي حرم الله من أعظم الخطايا، فردوا هذا الصبي إلى أبيه، ونعاهده ألا يحدث والده بشيء مما جرى أبدا؛ فقال له إخوته: والله ما تريد إلا أن تكون لك المكانة عند يعقوب، والله لئن لم تدعه لنقتلنك معه، قال: فإن أبيتم إلا ذلك فههنا هذا الجب الموحش القفر، الذي هو مأوى الحيات والهوام فألقوه فيه، فإن أصيب بشيء من ذلك فهو المراد، وقد استرحتم من دمه، وإن انفلت على أيدي سيارة يذهبون به إلى أرض فهو المراد؛ فأجمع رأيهم على ذلك؛ فهو قوله الله تعالى{فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب} وجواب }لما} محذوف؛ أي فلما ذهبوا به وأجمعوا على طرحه في الجب عظمت فتنتهم. وقيل: جواب }لما} قولهم أي انتحى؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{لتنبئنهم بأمرهم هذا} فيه وجهان: أحدهما: أنه أوحى إليه أنه سيلقاهم ويوبخهم على ما صنعوا؛ فعلى هذا يكون الوحي بعد إلقائه في الجب تقوية لقلبه، وتبشيرا له بالسلامة. الثاني: أنه أوحى إليه بالذي يصنعون به؛ فعلى هذا يكون الوحي قبل إلقائه في الجب إنذارا له. }وهم لا يشعرون} أنك يوسف؛ وذلك أن الله تعالى أمره لما أفضى إليه الأمر بمصر ألا يخبر أباه وإخوته بمكانه. وقيل: بوحي الله تعالى بالنبوة؛ قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل{الهاء} ليعقوب؛ أوحى الله تعالى إليه ما فعلوه بيوسف، وأنه سيعرفهم بأمره، وهم لا يشعرون بما أوحى الله إليه، والله أعلم. ومما ذكر من قصته إذ ألقي في الجب ما ذكره السدي وغيره أن إخوته لما جعلوا يدلونه في البئر، تعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه؛ فقال: يا إخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به في هذا الجب، فان مت كان كفني، وإن عشت أواري به عورتي؛ فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا فلتؤنسك وتكسك؛ فقال: إني لم أر شيئا، فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يسقط فيموت؛ فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى صخرة فقام عليها. وقيل: إن شمعون هو الذي قطع الحبل إرادة أن يتفتت على الصخرة، وكان جبريل تحت ساق العرش، فأوحى الله إليه أن أدرك عبدي؛ قال جبريل: فأسرعت وهبطت حتى عارضته بين الرمي والوقوع فأقعدته على الصخرة سالما. وكان ذلك الجب مأوى الهوام؛ فقام على الصخرة وجعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة عليه أدركتهم، فأجابهم؛ فأرادوا أن يرضخوه بالصخرة فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام؛ فلما وقع عريانا نزل جبريل إليه؛ وكان إبراهيم حين ألقي في النار عريانا أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم، ثم ورثه إسحاق، ثم ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذة وجعله في عنقه، فكان لا يفارقه؛ فلما ألقي في الجب عريانا أخرج جبريل دلك القميص فألبسه إياه. قال وهب: فلما قام على الصخرة قال: يا إخوتاه إن لكل ميت وصية، فاسمعوا وصيتي، قالوا: وما هي؟ قال: إذا اجتمعتم كلكم فأنس بعضكم بعضا فاذكروا وحشتي، وإذا أكلتم فاذكروا جوعي، وإذا شربتم فاذكروا عطشي، وإذا رأيتم غريبا فاذكروا غربتي، وإذا رأيتم شابا فاذكروا شبابي؛ فقال له جبريل: يا يوسف كف عن هذا واشتغل بالدعاء، فإن الدعاء عند الله بمكان؛ ثم علمه فقال: قل اللهم يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كاشف كل كربة، ويا عالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر سر كل ملأ، يا حي يا قيوم أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، إنك على كل شيء قدير؛ فقالت الملائكة: إلهنا نسمع صوتا ودعاء، الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي. وقال الضحاك: نزل جبريل عليه السلام على يوسف وهو في الجب فقال له: ألا أعلمك كلمات إذا انت قلتهن عجل الله لك خروجك من هذا الجب؟ فقال: نعم فقال له: قل يا صانع كل مصنوع، ويا جابر كل كسير، ويا شاهد كل نجوى، ويا حاضر كل ملأ، ويا مفرج كل كربة، ويا صاحب كل غريب، ويا مؤنس كل وحيد، ايتني بالفرج والرجاء، واقذف رجاءك في قلبي حتى لا أرجو أحدا سواك؛ فرددها يوسف في ليلته مرارا؛ فأخرجه الله في صبيحة يومه ذلك من الجب. {وجاؤوا أباهم عشاء يبكون} قوله تعالى{وجاؤوا أباهم عشاء} أي ليلا، وهو ظرف يكون في موضع الحال؛ وإنما جاؤوا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل، فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار؛ فروي أن يعقوب عليه السلام لما سمع بكاءهم قال: ما بكم؟ أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا. قال: فأين يوسف؟ قالوا: ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى وصاح وقال: ابن قميصه؟ على ما يأتي بيانه إن شاء الله. وقال السدي وابن حبان: إنه لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب؛ قال وهب: ولقد وضع يهوذا يده على مخارج نفس يعقوب فلم يحس بنفس، ولم يتحرك له عرق؛ فقال لهم يهوذا: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا، وقتلنا أبانا، فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر، فأفاق ورأسه في حجر روبيل؛ فقال: يا روبيل ألم آتمنك على ولدي؟ ألم أعهد إليك عهدا؟ فقال: يا أبت كف عني بكاءك أخبرك؛ فكف يعقوب بكاءه فقال: يا أبت }إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب}. قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله، لاحتمال أن يكون تصنعا؛ فمن الخلق من يقدر على ذلك، ومنهم من لا يقدر. وقد قيل: إن الدمع المصنوع لا يخفى؛ كما قال حكيم: {قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} قوله تعالى{نستبق} نفتعل، من، المسابقة. وقيل: أي ننتضل؛ وكذا في قراءة عبدالله }إنا ذهبنا ننتضل} وهو نوع من المسابقة؛ قاله الزجاج. وقال الأزهري: النضال في السهام، والرهان في الخيل، والمسابقة تجمعهما. قال القشيري أبو نصر{نستبق} أي في الرمي، أو على الفرس؛ أو على الأقدام؛ والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو، لأنه الآلة في قتال العدو، ودفع الذئب عن الأغنام. وقال السدي وابن حبان{نستبق} نشتد جريا لنرى أينا أسبق. قال ابن العربي: المسابقة شرعة في الشريعة، وخصلة بديعة، وعون على الحرب؛ قلت: وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من ذي قرد إلى المدينة فسبقه سلمة؛ خرجه مسلم. وأما المسابقة بالنصال والإبل؛ فروى مسلم عن عبدالله بن عمرو قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، وذكر الحديث. أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف، والحافر والنصل؛ قال الشافعي: ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار. وقد زاد أبو البختري القاضي في حديث الخف والحافر والنصل }أو جناح} وهي لفظة وضعها للرشيد، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته؛ فلا يكتب العلماء حديثه بحال. وقد روي عن مالك أنه قال: لا سبق إلا في الخيل والرمي، لأنه قوة على أهل الحرب؛ قال: وسبق الخيل أحب إلينا من سبق الرمي. وظاهر الحديث يسوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل. وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل؛ لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها. وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة؛ وقد تُؤُول قوله؛ لأن حمله على العموم في كل شيء يؤدي إلى، إجازة القمار، وهو محرم باتفاق. لا يجوز السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم، كما ذكرنا، وكذلك الرمي لا يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم، ونوع من الإصابة؛ مشترط خسقا أو إصابة بغير شرط. والأسباق ثلاثة: سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما؛ فمن سبق أخذه. وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه، فإن سبقه صاحبه أخذه، وإن سبق هو صاحبه أخذه، وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له، ولا يرجع إلى ماله؛ وهذا مما لا خلاف فيه. والسبق الثالث: اختلف فيه؛ وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه؛ وهذا الوجه لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما؛ فإن سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه؛ ولا شيء للمحلل فيه، ولا شيء عليه. وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما. وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي - : وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه؛ وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أوله. واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار، ولا يجوز. ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم، ولو ركبها أربابها كان أولى؛ وفد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها. وقال الشافعي: وأقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه؛ أو بالكفل أو بعضه. والسبق من الرماة على هذا النحو عنده؛ وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي. قوله تعالى{وتركنا يوسف عند متاعنا} أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها. }فأكله الذئب} وذلك أنهم لما سمعوا أباهم يقول{وأخاف أن يأكله الذئب} أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به؛ لأنه كان أظهر المخاوف عليه. }وما أنت بمؤمن لنا} أي بمصدق. }ولو كنا} أي وإن كنا؛ قاله المبرد وابن إسحاق. }صادقين} في قولنا؛ ولم يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي، بيانه. وقيل{ولو كنا صادقين} أي ولو كنا عندك من أهل الثقة ولصدق ما صدقتنا، ولا تهمتنا في هذه القضية، لشدة محبتك في يوسف؛ قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما. {وجاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} قوله تعالى{بدم كذب} قال مجاهد: كان دم سخلة أو جدي ذبحوه. وقال قتادة: كان دم ظبية؛ أي جاؤوا على قميصه بدم مكذوب فيه، فوصف الدم بالمصدر، فصار تقديره: بدم ذي كذب؛ مثل وقرأ الحسن وعائشة{بدم كدب} بالدال غير المعجمة، أي بدم طري؛ يقال للدم الطري الكدب. وحكي أنه المتغير؛ قاله الشعبي. والكدب أيضا البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث؛ فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اختلاف اللونين. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها، وهي سلامة القميص من التنييب؛ إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص ويسلم القميص من التخريق؛ ولما تأمل يعقوب عليه السلام القميص فلم يجد فيه خرقا ولا أثرا استدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان هذا الذئب، حكيما يأكل يوسف ولا يخرق القميص! قاله ابن عباس وغيره؛ روى إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الدم دم سخلة. وروى سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نظر إليه قال كذبتم؛ لو كان الذئب أكله لخرق القميص. وحكى الماوردي أن في القميص ثلاث آيات: حين جاؤوا عليه بدم كذب، وحين قد قميصه من دبر، وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا. قلت: وهذا مردود؛ فإن القميص الذي جاؤوا عليه بالدم غير القميص الذي قُد، وغير القميص الذي أتاه البشير به. وقد قيل: إن القميص الذي قُد هو الذي أتي به فارتد بصيرا، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى. وروي أنهم قالوا له: بل اللصوص قتلوه؛ فاختلف قولهم، فاتهمهم، فقال لهم يعقوب: تزعمون أن الذئب أكله، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده، وما أرى بالقميص من شق؛ وتزعمون أن اللصوص قتلوه، ولو قتلوه لأخذوا قميصه؛ هل يريدون إلا ثيابه؟! فقالوا عند ذلك{وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} عن الحسن وغيره؛ أي لو كنا موصوفين بالصدق لا تهمتنا. استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام ستدل على كذبهم بصحة القميص؛ وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة؛ ولا خلاف بالحكم بها، قاله بن العربي. روي أن يعقوب لما قالوا له{فأكله الذئب} قال لهم: ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به أستأنس به؟! ألم يترك لي ثوبا أشم فيه رائحته؟ قالوا: بلى! هذا قميصه ملطوخ بدمه؛ فذلك قوله تعالى{وجاؤوا على قميصه بدم كذب} فبكى يعقوب عند ذلك وقال، لبنيه: أروني قميصه، فأروه فشمه وقبله، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا، فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه؛ أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه؛ وعلم أن الأمر ليس كما قالوا، وأن الذئب لم يأكله، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال: يا معشر ولدي! دلوني على ولدي؛ فإن كان حيا رددته إلي، وإن كان ميتا كفنته ودفنته، فقيل قالوا حينئذ: ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا في مقالتنا ويقطع يأسه؛ فقال يهوذا: والله لئن فعلتم لأكونن لكم عدوا ما بقيت، ولأخبرن أباكم بسوء صنيعكم؛ قالوا: فإذا منعتا من هذا فتعالوا نصطد له ذئبا، قال: فاصطادوا ذئبا ولطخوه بالدم، وأوثقوه بالحبال، ثم جاؤوا به يعقوب وقالوا: يا أبانا! إن هذا الذئب الذي يحل بأغنامنا ويفترسها، ولعله الذي أفجعنا بأخينا لا نشك فيه، وهذا دمه عليه، فقال يعقوب: اطلقوه؛ فأطلقوه، وتبصبص له الذئب؛ فأقبل يدنو منه ويعقوب يقول له: ادن ادن؛ حتى ألصق خده بخده فقال له يعقوب: أيها الذئب! لم فجعتني بولدي وأورثتني حزنا طويلا؟! ثم قال اللهم أنطقه، فأنطقه الله تعالى فقال: والذي اصطفاك نبيا ما أكلت لحمه، ولا مزقت جلده، ولا نتفت شعرة من شعراته، والله! ما لي بولدك عهد، وإنما أنا ذئب غريب أقبلت من نواحي مصر في طلب أخ لي فُقد، فلا أدري أحي هو أم ميت، فاصطادني أولادك وأوثقوني، وإن لحوم الأنبياء حرمت علينا وعلى جميع الوحوش، وتالله لا أقمت في بلاد يكذب فيها أولاد الأنبياء على الوحوش؛ فأطلقه يعقوب وقال: والله لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم؛ هذا ذئب بهيم خرج يتبع ذمام أخيه، وأنتم ضيعتم أخاكم، وقد علمت أن الذئب بريء مما جئتم به. }بل سولت} أي زينت لكم. }أنفسكم أمرا} غير ما تصفون وتذكرون. قوله تعالى{فصبر جميل} قال الزجاج: أي فشأني والذي اعتقده صبر جميل. وقال قطرب: أي فصبري صبر جميل. وقيل: أي فصبر جميل أولى بي؛ فهو مبتدأ وخبره محذوف. والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى. وقيل: المعنى لا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين، بل أعاشركم على ما كنت عليه معكم؛ وفي هذا ما يدل على أنه عفا عن مؤاخذتهم. وعن حبيب بن أبي ثابت أن يعقوب كان قد سقط حاجباه على عينيه؛ فكان يرفعهما بخرقة؛ فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان؛ فأوحى الله إليه أتشكوني يا يعقوب؟! قال: يا رب! خطيئة أخطأتها فاغفر لي. }والله المستعان} ابتداء وخبر. }على ما تصفون} أي على احتمال ما تصفون من الكذب. قال ابن أبي رفاعة: ينبغي لأهل الرأي أن يتهموا رأيهم عند ظن يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو نبي؛ حين قال له بنوه{إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب} قال{بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل} فأصاب هنا، ثم قالوا له {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون} قوله تعالى{وجاءت سيارة} أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطؤوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، إنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. }فأرسلوا واردهم} فذكر على المعنى؛ ولو قال: فأرسلت واردها لكان على اللفظ، مثل }وجاءت}. والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم؛ وكان اسمه - فيما ذكر المفسرون - مالك بن دعر، من العرب العاربة. }فأدلى دلوه} أي أرسله؛ يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها، ودلاها أي أخرجها: عن الأصمعي وغيره. ودلا - من ذات الواو - يدلو دلوا، أي جذب وأخرج، وكذلك أدلى إذا أرسل، فلما ثقل ردوه إلى الياء، لأنها أخف من الواو؛ قال الكوفيون. وقال الخليل وسيبويه: لما جاوز ثلاثة أحرف رجع إلى الياء، اتباعا للمستقبل. وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت: دلي ودلي؛ فقلبت الواو ياء، إلا أن الجمع بابه التغيير، وليفرق بين الواحد والجمع؛ ودلاء أيضا. }قال يا بشرى هذا غلام} فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر، أحسن ما يكون من الغلمان. {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين} قوله تعالى{وشروه} يقال: شريت بمعنى اشتريت، وشريت بمعنى بعت لغة؛ قال الشاعر: أي بعت. وقال آخر: {بثمن بخس} أي نقص؛ وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم؛ أي باعوه بثمن مبخوس، أي منقوص. ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه. وقيل: إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاؤوا وباعوه من الواردة. وقيل: لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا: هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم. وقال قتادة{بخس} ظلم وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء{بخس} حرام. وقال ابن العربي: ولا وجه له، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة؛ لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه؛ وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا؛ أو قالوا لأصحابهم: أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله. قلت: قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك؛ فدل على صحة ما قاله السدي وغيره؛ لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه. وقال عكرمة والشعبي: قليل. وقال ابن حيان: زيف. وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين، وكانوا عشرة؛ وقاله قتادة والسدي. وقال أبو العالية ومقاتل: اثنين وعشرين درهما، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين؛ وقاله مجاهد. وقال عكرمة: أربعين درهما؛ وما روي عن الصحابة أولى. و}بخس} من نعت }ثمن}. قوله تعالى{دراهم معدودة} على البدل والتفسير له. ويقال: دراهيم على أنه جمع درهام، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء، وليس هذا مثل مد المقصور؛ لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره. وأنشد النحويون: {معدودة} نعت؛ وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن. وقيل: هو عبارة عن قلة الثمن؛ لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها؛ وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية، وهي أربعون درهما. قال القاضي ابن العربي: وأصل النقدين الوزن؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى). والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار؛ فأما عينها فلا منفعة فيه، ولكن جرى فيها العد تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة، فيشق الوزن؛ حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان؛ فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن؛ ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم. واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك: فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين، وهو الظاهر من قول مالك؛ وبه قال أبو حنيفة. وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين، وحكي عن الكرخي؛ وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال: بعتك، هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها، والدراهم بذمة صاحبها؛ ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها. روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قضى، في اللقيط أنه حر، وقرأ{وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} وقد مضى القول فيه. قوله تعالى{وكانوا فيه من الزاهدين} قيل: المراد إخوته. وقيل: السيارة. وقيل: الواردة؛ وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا، لا عند الإخوة؛ لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى. في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير، ويكون البيع لازما؛ ولهذا قال مالك: لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله. وقيل{وكانوا فيه من الزاهدين} أي في حسنه؛ لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له. وقيل{وكانوا فيه من الزاهدين} لم يعلموا منزلته عند الله تعالى. وحكى سيبويه والكسائي: زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها. {وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قوله تعالى{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته} قيل: الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال؛ إذ لم يكن ذلك عقدا، مثل قوله تعالى{أكرمي مثواه} أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن؛ وهو مأخوذ من ثوى بالمكان أي أقام به؛ وقد تقدم في }آل عمران} وغيره. }عسى أن ينفعنا} أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ. }أو نتخذه ولدا} قال ابن عباس: كان حصورا لا يولد له، وكذا قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له. فإن قيل: كيف قال }أو نتخذه ولدا} وهو ملكه، والولدية مع العبدية تتناقض؟ قيل له: يعتقه ثم يتخذه ولدا بالتبني؛ وكان التبني في الأمم معلوما عندهم، وكذلك كان في أول الإسلام، على ما يأتي بيانه في }الأحزاب} إن شاء الله تعالى. وقال عبدالله بن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة؛ العزيز حين تفرس في يوسف فقال{عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى قوله تعالى{وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} الكاف في موضع نصب؛ أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له؛ أي عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه. }ولنعلمه من تأويل الأحاديث} أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب{ويعلمك من تأويل الأحاديث}. وقيل: المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا، ونعلمه تأويله. وتفسيره، وتأويل الرؤيا، وتم الكلام. }والله غالب على أمره} الهاء راجعة إلى الله تعالى؛ أي لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده أن يقول له: كن فيكون. وقيل: ترجع إلى يوسف؛ أي الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره، حتى لا يصل إليه كيد كائد. }ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي لا يطلعون على غيبه. وقيل: المراد بالأكثر الجميع؛ لأن أحدا لا يعلم الغيب. وقيل: هو مجرى على ظاهره؛ إذ قد يطلع من يريد على بعض، غيبه. وقيل: المعنى }ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أن الله غالب على أمره، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر. وقالت الحكماء في هذه الآية{والله غالب على أمره} حيث، أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة، فقال{يا أسفا على يوسف} ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة، وقالوا لأبيهم {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} قوله تعالى{ولما بلغ أشده} }أشده} عند سيبويه جمع، واحده شدة. وقال الكسائي: واحده شد؛ كما قال الشاعر: وزعم أبو عبيد أنه لا واحد له من لفظه عند العرب؛ ومعناه استكمال القوة ثم يكون النقصان بعد. وقال مجاهد وقتادة: الأشد ثلاث وثلاثون سنة. وقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك بن أنس: الأشد بلوغ الحلم؛ وقد مضى ما للعلماء في هذا في }النساء} و}الأنعام} مستوفى. }آتيناه حكما وعلما} قيل: جعلناه المستولي على الحكم، فكان يحكم في سلطان الملك؛ أي وآتيناه علما بالحكم. وقال مجاهد: العقل والفهم والنبوة. وقيل: الحكم النبوة، والعلم علم الدين؛ وقيل: علم الرؤيا؛ ومن قال: أوتي النبوة صبيا قال: لما بلغ أشده زدناه فهما وعلما. }وكذلك نجزي المحسنين} يعني المؤمنين. وقيل: الصابرين على النوائب كما صبر يوسف؛ قاله الضحاك. وقال الطبري: هذا وإن كان مخرجه ظاهرا على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله تعالى: كما فعلت هذا بيوسف بعد أن قاسى ما قاسى ثم أعطيته ما أعطيته، كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكن لك في الأرض. {وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} قوله تعالى{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه} وهي امرأة العزيز، طلبت منه أن يواقعها. وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين. والرود والرياد طلب الكلأ؛ وقيل: هي من رويد؛ يقال: فلان يمشي رويدا، أي برفق؛ فالمراودة الرفق في الطلب؛ يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه. والرود التأني؛ يقال: أرودني أمهلني. }وغلقت الأبواب} غلق للكثير، ولا يقال: غلق الباب؛ وأغلق يقع للكثير والقليل؛ كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء: يقال: إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها. }وقالت هيت لك} أي هلم وأقبل وتعال؛ ولا مصدر له ولا تصريف. قال النحاس: فيها سبع قراءات؛ فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبدالله بن مسعود يقرأ }هَيتَ لك} قال فقلت: إن قوما يقرؤونها }هِيتَ لك} فقال: إنما أقرأ كما علمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد ذلك؛ لأن قوله: إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة؛ وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي. قال عبدالله ابن مسعود: لا تقطعوا في القرآن؛ فإنما هو مثل، قول أحدكم: هلم تعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي }قالت هَيتِ لك} بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وابن كثير }هَيتُ لك} بفتح الهاء وضم التاء؛ قال طرفة: فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع }وقالت هِيتَ لك} بكسر الهاء وفتح التاء. وقرأ يحيى بن وثاب }وقالت هِيْتُ لك} بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة{وقالت هَئتُ لك} بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة. وعن ابن عامر وأهل الشام{وقالت هِئتَ} بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء؛ قال أبو جعفر{هئتَ لك} بفتح التاء لالتقاء الساكنين، لأنه صوت نحومه وصه يجب ألا يعرب، والفتح خفيف؛ لأن قبل التاء ياء مثل، أين وكيف؛ ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر؛ لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية؛ أي قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة بني على الضم؛ مثل حيث وبعد. وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما: أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر. والآخر: أن يكون فعلا من هاء يهيئ مثل جاء يجيء؛ فيكون المعنى في }هئت} أي حسنت هيئتك، ويكون }لك} من كلام آخر، كما تقول: لك أعني. ومن همز. وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك؛ وكذلك من قرأ }هيت لك}. وأنكر أبو عمرو هذه القراءة؛ قال أبو عبيدة - معمر بن المثنى: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال أبو عمرو: باطل؛ جعلها من تهيأت! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هذا؟! وقال الكسائي أيضا: لم تحك }هئت} عن العرب. قال عكرمة{هئت لك} أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت، وهي قراءة غير مرضية؛ لأنها لم تسمع في العربية. قال النحاس: وهي جيدة عند البصريين؛ لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة فهاء يهيئ مثل جاء يجيء وهئت مثل جئت. وكسر الهاء في }هيت} لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها. قال الزجاج: أجود القراءات }هيت} بفتح الهاء والتاء؛ قال طرفة: بفتح الهاء والتاء. وقال الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا قال ابن عباس والحسن{هيت} كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها. وقال السدي: معناها بالقبطية هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال؛ قال أبو عبيد: فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم؛ وبه قال عكرمة. وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء؛ قال الجوهري: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه؛ قال: أي صاح؛ وقال آخر: يحدو بها كل فتى هيات قوله تعالى{قال معاذ الله} أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه؛ وهو مصدر، أي أعوذ بالله معاذا؛ فيحذف المفعول وينتصب بالمصدر بالفعل المحذوف، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول، كما تقول: مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو. }إنه ربي} يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه؛ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي. وقال الزجاج: أي إن الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكب ما حرمه. وفي الخبر أنها قالت له: يا يوسف! ما أحسن صورة وجهك! قال: في الرحم صورني ربي؛ قالت: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول شيء يبلى مني في قبري؛ قالت: يا يوسف! ما أحسن عينيك؟ قال: بهما أنظر إلى ربي. قالت: يا يوسف! ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال: إني أخاف العمى في آخرتي. قالت يا يوسف ! أدنو منك وتتباعد مني؟! قال: أريد بذلك القرب من ربي. قالت: يا يوسف! القيطون فرشته لك فادخل معي، قال: القيطون لا يسترني من ربي. قالت: يا يوسف! فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقض حاجتي، قال: إذا يذهب من الجنة نصيبي؛ إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها؛ إلى أن هم بها. وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة؛ فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه. واختلف العلماء في همه. ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها }لولا أن رأى برهان ربه} ولكن لما رأى البرهان ما هم؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء؛ قال الله تعالى{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فإذا في الكلام تقديم وتأخير؛ أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله{ولقد همت به وهم بها} الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به؛ فبين الهمتين فرق، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه. قال جميل: آخر: فهذا كله حديث نفس من غير عزم. وقيل: هم بها تمنى زوجيتها. وقيل: هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب؛ إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها. وقيل: إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم. قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه: استلقت، على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه. وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله. وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. قال ابن عباس: ولما قال قلت: وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب، ما يأتي بيانه في }ص] إن شاء الله تعالى. وجواب }لولا} على هذا محذوف؛ أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به؛ ومثله قلت: هذا قول حسن؛ وممن قال به الحسن. قال ابن عطية: الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية؛ وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه؛ لأن العصمة مع النبوة. وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء. فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد. قلت: ما ذكره من هذا التفصيل صحيح؛ لكن قوله تعالى قلت: وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك؛ فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق عليه السلام جالسا فقال: أنت يوسف؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم؟! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال؛ ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظا كهو؛ ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم. قوله تعالى{لولا أن رأى برهان ربه} }أن} في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف. لعلم السامع؛ أي لكان ما كان. وهذا البرهان غير مذكور في القرآن؛ فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة؛ فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله؛ وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل. وقيل: رأى مكتوبا في سقف البيت قوله تعالى{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} الكاف من }كذلك} يجوز أن تكون رفعا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير.: البراهين كذلك، ويكون نعتا لمصدر محذوف؛ أي أريناه البراهين رؤية كذلك. والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة. وقيل: السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى. وقيل: السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. وقيل: السوء عقوبة الملك العزيز. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر }المخلصين} بكسر اللام؛ وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته؛ وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى، مستخلصا لرسالة الله تعالى.
|